ترك الشيخ توري بعد وفاته بلدا مهلهلا من جميع النواحي ، فحكمه الطويل لم يخلف سوى اقتصاد فاشل وعملة بدون قيمة و جيشا فاسدا و إرثا سياسيا مثقلا بالصراعات بين قوميات غينيا المختلفة و تركة سياسية مليئة بالممارسات القمعية و عبادة الفرد.
الشيء الإيجابي الوحيد الذي ورثه الشعب من تركة النظام الفاشل هو خدمة البريد ، فلقد كان الشيخ توري قبل أن يصل للسلطة ساعي بريد فبادر بعد اعتلائه سدة الحكم بالتركيز الكامل على هذا القطاع ، فلم يبق كوخ في البلد بدون صندوق بريدي ، كما اكتتب له الآلاف من الموظفين و استثمر فيه مبالغ طائلة ، رغم أن الأكثرية الساحقة من الشعب الغيني فقراء لدرجة أنهم لا يستطيعون شراء الطوابع و لا حتى الأوراق و الأقلام و أميون لا يعرفون كتابة الرسائل و لا حتى كتابة أسمائهم.
اليوم نرى في موريتانيا حالة مشابهة ، فمنذ اليوم الأول لوصول و لد عبد العزيز للسلطة و جميع القطاعات الاقتصادية تشهد تراجعا ، فالصيد تعرض لخسائر هائلة بسبب تحريم تصدير العديد من الأنواع ، المنع الذي أدى إلى حرمان السوق من ملايين الدولارات من العملة الصعبة ،وتسبب في عزوف الصيادين عن صيد الأنواع الممنوعة من التصدير ، فهي أنواع فاخرة يصعب صيدها بسبب الندرة ولا يستطيع السوق المحلي تقديم سعر يناسب الجهد المبذول في صيدها ، كما ان بعض الأنواع الممنوعة من التصدير هي أسماك مهاجرة فإما أن نصطادها أو نتركها لشباك صيادي الدول المجاورة.
بعد أن ظهرت كارثية التجربة عاد و لد عبد العزيز عن قوانينه الفاشلة ، و لكن قطاع الصيد تعرض لخسائر تركته في حالة مزرية يحتاج التعافي منها لسنوات من العمل.
لم يكتف الجنرال بهذا القطاع فقط بل امتدت أياديه لزراعة الأرز الذي منعت عنه المساعدات لينهار بشكل نهائي، لتتبخر آلاف فرص العمل ولتضيع تراكمات عقود من العمل وعشرات المليارات التي سبق ان صرفت لرعاية هذا القطاع وتنميته.
كما اهتزت الثقة في قطاع الأعمال بعد حملة تصفية الحسابات السياسية مع خصوم الجنرال والتي جعلت الكثيرين يخافون على أموالهم ويعزفون عن استثمارها في دولة قانونها الوحيد رغبات ونزوات حاكمها العسكري.
حتى القطاع السياحي قارب من الانقراض بعد الانفلات الأمني الذي لم تعرف له موريتانيا مثيلا ، فشهدنا للمرة الأولى في تاريخ البلد عملية انتحارية و اختطاف السياح الأجانب و درجة مخيفة من ارتفاع جرائم القتل.
إلا أن القطاع الوحيد الذي لم يشهد أي تراجع هو المرتبط بالسيارات و كل ما يتعلق بها من قريب أو بعيد، كالطرقات فجنرالنا على معرفته عميقة بالميكانيكا و أخطار الطرق الرملية على نوابض السيارات و هياكلها.
فعبّد الكثير الشوارع و أنشأ قيادة أركان جديدة مختصة بأمن الطرقات و استحدث هيئة للفحص الميكانيكي ، و قام بحملات لمصادرة السيارات غير المجمركة و رفع الضريبة السنوية عليها وسن القوانين لتعويض النقل ليستطيع مصادرة السيارات المخصصة لموظفي الدولة. كما أنه اشترى المئات من السيارات للقوات المسلحة ظانا أنه بذلك يحل مشكلة الأمن المنفلت و الهجمات الإرهابية المتكررة.
حتى أنه في زيارته للجمهورية الإيرانية بدأ مطالبه بالسيارات و الطريف في الأمر إن نشاطاته في إيران لم تتعد اللقاءات بالقيادات السياسية الإيرانية و زيارة قبر الإمام الخمينى المفروضة في البرتوكول و اقتصر في جولاته في هذا البلد المليء بالمعالم التاريخية و المنشئات الهامة على زيارة مصنع للسيارات.
إنها نفس مشكلة الشيخ توري مع البريد ، إنها المهنة و التخصص المصحوبة بالجهل الفاضح الذي يصور لصاحبه دائما أنه الأكثر خبرة و الأعمق فكرا ، و الدكتاتورية التي تحيد كل نقد و ترفض الرأي المخالف و تحتقر العلم و الكفاءة وأصحاب الخبرة ، فكلا القائدين أقتصر في تحليله لمشاكل بلده و أسلوب التنمية الأمثل على خبراته ومعارفه الذاتية ، فرأى الأول أن البريد هو الطريق الوحيد للتنمية بينما رأى الثاني أن مشكلة موريتانيا هي مشكلة سيارات بالدرجة الأولى.
نشر في موقع تقدمي بتاريخ 30/1/2010