غريب أمر هذه الحياة ، تمر سراعا أشخاص نعرفهم ، لحظات تنقضي أحزان وأفراح تتعاقب و تبقي في تلافيف الذاكرة انطباعات لا تمحى ، تعيش معنا تخالط اللحم و الدم ، تغوص ولا تزول وفجأة تخرج لتتملك كل كياننا وتحيطنا بهالة من الحزن العميق.
بعد القبض على صالح ولد حننا و عبد الرحمن ولد ميني بدأت أشعر بأن الخناق يضيق في نواكشوط وبأن السلطات بدأت بوضع عيونها علي خصوصا بعد ظهور أخي الأكبر وقائدي المباشر محمد ـ الحامد ـ في فلم للتنظيم في الصحراء.
معارف لم أرهم من سنين يظهرون فجأة بعد طول غياب يطيلون زياراتهم وكأننا لم نفترق للحظة ، محل جديد في ناصية الشارع المقابل لشقتي لا تشي ملامح أصحابه و لا نظراتهم بكونهم تجارا ـ من المفارقات أنهم أغلقوا المحل بعد سفري بأيام ـ سيارات بأشكال مختلفة تقف أمام البيت في مراقبة مكشوفة أقرب إلى الفجاجة ، عروض غريبة و متنوعة من أشخاص مشبوهين للانضمام للعمل المسلح ضد النظام و كأنهم على ثقة تامة بكوني عضوا في تنظيم فرسان التغيير! ، وفي الاخير جاءت المعلومات بضرورة سرعة المغادرة.
سافرت على مضض و كلي قلق و حزن ،أولا الى دمشق بأوامر من التنظيم للقيام ببعض العمل ، و من ثم انتقلت إلى اديس أبابا لأودع الوالد . في طريق العودة مررت باليمن و تعرضت لموقف غريب .
قال لي رجل الأمن بالمطار بكل وقاحة وهو يعاين جوازي ، انا أكره الموريتانيين لعلاقاتهم بإسرائيل ! سببته بكل ما في قاموسي من الشتائم هو وعلي عبد الله صالح وما بينهما ، و لولا تدخل ضابط كبير يبدوا أنه طرب لسباب رئيسه ـ اظنه من المتمردين على علي عبدالله صالح هذه الايام ـ لكنت دخلت في مشكلة لا أول لها و لا آخر، علمتني تلك التجربة مدى الانحطاط الذي وصلت له سمعة وطني وربما كانت السبب في اصراري على الذهاب للتنظيم و الدخول في العمل المباشر ،إذ كان التنظيم قد اقترح علي البقاء في العمل الخارجي و الاتصالات ، كنت أفكر في الاستقرار في إسبانيا وخاصة أن في جوازي سمة دخول و لي صديق اسباني في مدريد سبق وان عرض علي الاقامة عنده.
كان خياري في محله، اتيحت لي فرصة نادرة لأتعلم من كتاب الحياة الكبير و لأعرف معادن الرجال التي لا تظهر إلا في لحظات العسر، في أرض الله الواسعة ـ كما يسميها الفرسان ـ تعرفت على أشخاص كثر و عشت أياما لا تنسى، اختفى القلق وحل محله شعور رائع بالطمأنينة ، إنها المرة الأولى التي أتفرغ للنضال من أجل ما أؤمن به .
هنالك تعلمت أن أكبر لذة في الحياة هي السير في طريق المبادئ وأن الماديات صدأ الروح و ضريبة الخواء.
هناك تعرفت على رجال قل أمثالهم و ادركت مدى عظمة الموريتانيين و معدنهم الأصيل الذي لا يظهر إلا في اللحظات الصعبة .
هنالك عرفت ذلك النادر المثال مصطفى ولد الإمام الشافعي الذي رضع عشق الحرية من أول أيام حياته ، تربى على قصص الثورة الجزائرية التي جاهد والده في صفوفها وعمل سنوات في تزويدها بالسلاح عبر مسارب الصحراء الكبرى ، مصطفى الكريم إلى حد المخاطرة بماله و منصبه وحتى سلامته من اجل أناس لا يعرفهم و الشجاع إلى درجة تفوق العقل و العاشق لمعذبي الأرض أينما كانوا و المنتصر دائما ولو بعد طول مدة.
الرجل الذي حمل هموم مسلمي ساحل العاج وكان المحرك الحقيقي لثورتهم التي كللت بالنصر في الأيام الأخيرة و المدافع عن عرب النيجر و حقوقهم و أحد اهم الفاعلين في ثورة عرب مالي التي كللت بسلام الشجعان و نجحت في إخراج أخوتنا من دائرة الظلم الذي دأب عليه حكام مالي بدأ بمودي بوكيتا .
مصطفى ذلك الرجل الموجود دائما في كل تغيير نحو الحرية ، في إسقاط الطاغية تانجيا في النيجر و في القضاء على الطاغية غباغبو في ساحل العاج و في انتصار المعارض الغيني التاريخي ألفا كوندي.
مصطفى المتواضع جدا، صديق الجميع و اخ الجميع، مصطفى الذي أحتفظ بداخله بذلك الإرث الجكني من الإيمان الراسخ بالله والكفر بطواغيت البشر والذي أعترف الجميع بفضله أفارقه و عربا و غربيين اللهم إلا طغمة موريتانيا الذين لا يتحملون رؤية الرجال العظام و لا حتى سماع أسمائهم.
منهم ذلك الحرطاني الصغير في السن ، كان اسمه الحركي القاسم ـ مختار ولد مرزوق ـ قرر الالتحاق بالفرسان رغم انه لم يكن من الانقلابين، ترك عمله في الحرس ليدخل الصحراء الكبرى متنقلا بين مدن وقفار مالي والنيجر في رحلة أقرب الى الخيال ، تمكن في آخر المطاف من الوصول لمبتغاه ، لن أنسى حماسه الرائع ما حييت و لن أنسى ما حييت همته العالية وعشقه لوطنه، كان القاسم يتألم عندما يشغل أحدهم شريطا لديمي، يتألم لدرجة أنه يصاب بمشاكل في القرحة المعدية ، كاد حبه لموريتانيا أن يقتله.
منهم شاب "الأقلال" الفارع الطول ، البهي الطلعة ، كان اسمه الحركي الصادق ـ محمد ولد السالك ـ رجل من معدن نادر، لا يتكلم إلا مبتسما ليس في قاموسه أي مفردات جارحة ، و لا في قلبه أدنى ذرة حقد حتى على الذين حرموه من وطنه.
كان رجلا عمليا ، عسكريا من الطراز الرفيع شكلا ومضمونا ، مدمنا على القراءة و الكتابة ، فصيح اللسان تقاسمت معه عشق المتنبي و محبة الفصحى ، كان فخورا بلغته و انتمائه ، دائم الحديث عن الجيش الموريتاني و عن سبل تطويره والنهوض به ، تحس منذ اول لقاء معه مدى نبل الدماء التي تسري في عروقه.
ما لا يعرفه الكثيرون أن عبد الرحمن ولد ميني و محمد ولد السالك عماد المحاولة الانقلابية في الثامن من أغسطس ، فهما من سيطرا على كتيبة الدبابات ، و نفذا مهامها على أكمل وجه.
كانت مع الصادق زوجته اميلي منت الغوث التي اختارت أن تلحق بزوجها لتقاسمه السراء و الضراء، الوجه النسائي الوحيد في عالم الفرسان إنها موريتانيا المتنقلة ، برائحة البخور المنبعثة التي تذكرنا بأخواتنا و امهاتنا، بأشرطة سدوم وديمي التي تحملك في غمضة عين لبطحاء وادي الرشيد الطاهرة و جبال تكانت الشامخة....بأشربتها التقليدية الشافية من حرقة الغربة القسرية و بالشاي الناعم ذو اللمسة الحنونة الذي أنقذنا من شاي أصحبانا العسكر.... بابتسامتها الدائمة و أخلاقها الرفيعة التي تنسيك كل هم وتجعلك تحس بالخجل من تضحياتك البسيطة مقارنة بهذه العلوية الأصيلة التي اختارت طريق المعاناة و الخطر ومعايشة الكلاشينكوف كجزء من افراد العائلة.
سبحان الله ما أروعه من ثنائي، و ما جملها من ايام .
عندما انتقل صالح و عبدالرحمن لنواكشوط قررا ان يسبقاه ، لعلهما كانا يدركان حجم المخاطرة و يعرفان أنه إذا تم القبض عليهما و معهما الصادق فلن تبقى للتنظيم أي بقية ، ربما كانا يريدان الاحتفاظ به كنواة لأي عمل مستقبلي لمعرفتهم العميقة بقدراته الفذة و شجاعته المنقطعة النظير، قبض عليهما كما توقعا، و لم يستطع الصادق أن يتحمل فكرة البقاء طليقا بعد زميليه، كان هذا هو حزنه الأكبر و ألمه العميق....
انتهت مرحلة الفرسان بانقلاب داخل القصر ووصل الى الحكم أبناء النظام . لقد قُطفت الثمرة الناضجة بعرق و تضحيات الآخرين لتبدأ مسرحية مازلنا الآن في فصلها الثالث.
يقول المؤرخون أن التاريخ يكتبه المنتصرون ، صدق المؤرخون تحول رجال المال الحرام إلى قادة التغيير و تحول انقلابهم الخالي من الفروسية إلى علامة فارقة ووقع الجميع في الفخ ورقصوا حتى الثمالة على انغام وعودهم البراقة التي تخفي نهما جنونيا و احتقارا غريبا لتاريخ و جغرافيا و جهات و قبائل موريتانيا.
الآن هذا هو نصرهم و هذه البلاد هي غنيمتهم و لكن في النهاية سنرى من هو المنتصر في آخر المطاف ؟ أهذا الورم الغريب؟ أم ذلك الشعب الأصيل و الكريم و الشجاع ؟ سنرى كيف يكون حكم التاريخ النهائي على هؤلاء، ذلك هو السؤال وتلك هي القضية.
تفرق الفرسان ، و مضى كل الى سبيله ، و بقيت الذكريات. اختار الله جل وعلى الصادق إلى جواره ، و بقينا نحن نجتر الذكريات عن تلك الأيام واولئك الرجال، ننساهم أحيانا و نتذكرهم حينا فيتملكنا الشعور الطاغي بالحزن على تلك الأحلام الجميلة بوطن كريم.... بوطن يليق بالفرسان.
لا نامت أعين الجبناء.
نشر في تقدمي بتاريخ 8/6/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق