الجمعة، 21 أكتوبر 2011

عمي الحاج


في نهاية السبعينات تعودت انا و الاصدقاء ان نتحلق  حول رجل عجوز يعتمر  طاقية سوداء ويلف جسده النحيل بذلك الثوب الليبي القادم من اعماق التاريخ و في يده عصا تساعده على تحمل ثقل السنين .....   كان عمي الحاج ـ كما يسمي الليبيون كل كبار السن ـ جد احد الأصدقاء.

دأب  الرجل بعد صلاة العصر على الجلوس على كرسي امام البيت وتعودنا نحن بعد ان يهدنا التعب من لعب الكرة و سباق الدرجات ومطاردة كلاب طرابلس أن نأتي لعمي الحاج و نجلس حوله ليأخذ في حكاية قصص مشوقة تحبس الأنفاس و ترفع نبضات القلوب....


كانت كل قصص الرجل عن المجاهدين الليبيين .... لن أنسى ما نسيت قصته عن سيدي عمر ـ عمر المختار كما عرفت لاحقا ـ ، و كيف قتل الأسد وهو شاب صغير في قافلة متجهة نحو  بلاد السودان ـ على ذمة عمي الحاج ـ بعد ان رفض عادة قديمة دأب عليها اهل القوافل بترك شاة في احد الأماكن التي يهيمن عليها أسد هصور عله ينشغل بها عن القافلة ... ترفع  سيدي عمر عن دفع الجزية صاغرا  للحيوانات  و بدأت ملحمة اخذت حاولي الأسبوع تقريبا لم استطع فيها النوم ليلة واحدة بدون ان اتخيل نفسي على جواد أبيض اصارع الأسود و أقاتل الطليان....



حدثنا عن عيسى الوكواك  ذلك البطل الأقرب الى الأساطير الذي يتخفى مرة بثوب امرأة و يتعطر ليدخل على ضابط ايطالي و يشنقه بحبل ، و مرة اخرى يقتحم وحيدا قاعدة إيطالية لينقذ بقرات ابنة عمه .....


لم يستطع الإيطاليون القبض عليه فلجأوا للحيلة ، وسقط  البطل في أيديهم وحكموا عليه بالإعدام ...


على حبل المشنقة رأى بعض الأصدقاء فالتفت اليهم و الابتسامة على محياه قائلا :


ودعتكم يا الأجواد ..
فأجابه أحدهم  :  لجواد فرقت... .


ضرب الرجل العجوز عصاه بالأرض و هو يتلفظ بالجملة الأخيرة   ... تغير محياه و تحول وجهه الى شعلة من الغضب و نهض متجها الى داخل الدار متقوس الظهر و كأنه يحمل على كتفيه جبلا من الهم .
تجنبنا جميعا النظر في عيون بعضنا البعض و افترقنا بدون أي كلمة...


*****


مضت السنوات  .... و أراد الله ان اظل مرتبطا بليبيا بشكل أو بآخر ... في بينين كانت هناك مدرسة عربية واحدة هي المدرسة الليبية التي ربطت حبل المودة بذلك الوطن الذي احببته ايما محبة ... وبعد ذلك بسنوات  دخلت المدرسة الليبية في المغرب بسبب دراستي للمناهج العربية ...


هنالك توثقت الروابط مرة اخرى ليغمرني كرم و حب الليبيين .... سيبقى في الذاكرة الى الأبد ذلك الاحساس الدافئ  بطيبة و اصالة ذلك الشعب وحفاوة   الأصدقاء الطييبين  ودعواتهم  السخية على صحون البازين و العصبان ....


في المدرسة اكتشفت الهوة العميقة التي تنحدر نحوها ليبيا ، كان ابناء الديبلوماسيين الليبيين يحصلون على حلول الامتحانات جاهزة و كانت حصيلة السنة الدراسية فيما اتذكر ، الأولى ابنة السفير ، الثاني ابن السكرتير الأول و الثالث ابن المحاسب .


كان اصدقائي على طيبتهم يتوجسون خيفة من زملائهم.... لم يكن احدهم يجرأ ان يتحدث عن شؤون ليبيا و سياستها بحضور الآخرين كان الرعب في كل القلوب حتى الفتية منها .


حدثوني فرادى عن عمق المأساة عن انتشار الحشيش و الكحول المنظم ، هنالك سمعت للمرة الأولى بقصة الشهيد حامد الشويهدي وكيف علق على حبل المشقة بعد محاكمة هزلية في ملعب عام بمدينة بنغازي لتقفز احداهن بعد ان اكتشفت انه لم يفارق الدنيا للتعلق برجليه و تسحبه للأسفل للإسراع بموته ، كل هذا عبر شاشات التلفزيون  لنقل الرعب إلى كل بيت و كيف اصبحت تلك المجرمة هدى بن عامر رمزا في النظام الليبي بعد جريمتها المروعة ـ وبعد ذلك بسنوات رأيتها وزيرة للمرأة في النظام الليبي ـ هنالك اكتشفت  سوس القبلية والجهوية  الذي ينخر المجتمع الليبي بتشجيع ومباركة النظام ،هنالك عرفت مدى الفساد و عمق الهوة التي تسقط فيها ليبيا الجميلة و الطيبة .


انتهت فترتي في المغرب ، لأظل متابعا لشؤون ليبيا من بعيد لتتاح لي الفرصة سنة 2005 لزيارة طرابلس و انا طريد شريد متوجها الى واغادوغو.


ذهلت من مدى الكارثة التي  وصلت اليه طرابلس الجميلة.  كانت هناك غلالة ثقيلة تخيم على ربوعها الساحرة نوع من الريح الأصفر والطاعون الأكبر... وباء يدعى القذافي !


كان الفندق الذي نزلت فيه  صورة حقيقية عن حال ليبيا ، الواجهة مغطاة بالرخام و في  الداخل كان المصعد بدون أزرار  ولابد من اصطحاب قلم للضغط على  الطابق تجنبا لصعق الكهرباء و في داخل الغرفة القذارة في كل مكان حتى مخدات السرير التي كانت مليئة بالدم .


تجولت في المدينة و لفت انتباهي الحضور المخيف لصور القذافي في كل مكان ، كان انتشار الصور متناسبا مع حجم الافلاس الفكري و السياسي والاقتصادي و تحتها كنت ترى الشباب الليبي يجول بلا أمل فنسبة البطالة قاربت 35 في المائة و ليس من النادر ان تمر على امرأة باللباس التقليدي الليبي  تمد يدها للمارة طلبا لما يسد وطأة الجوع و الحرمان.


كان القذافي في كل مكان حتى في المتحف الليبي الرائع ، فقبل الدخول للتمتع بسحر آلهة الصيد ديانا و جمال ربة الحب فينوس   تواجهك  سيارة قميئة من نوع "فولكس فاغن" كأحد رموز التاريخ الليبي لأنها كانت ذات يوم سيارة معمر القذافي !


قصص لا تصدق عن مدى انحدار الصحة عاينت بعضها بنفسي في مستشفيات ليبيا الخربة التي تفوقها بمرات مستشفياتنا البائسة و لعل قصة انتشار الإيدز بين الأطفال دليل على مدى الكارثة .
شيء واحد لم يتغير ، الكرم الأصيل و الطيبة اللانهائية. لفت انتباهي انك كلما سألت احدهم عن مكان ما اصر على ايصالك بنفسه مهما بعدت المسافة سواء اكان راجلا ام صاحب سيارة.


*****


دار الزمن دورته ... وخرج علينا ولد عبد العزيز من مجاري التاريخ  ليحطم كل الآمال بالحرية و لتقفز موريتانيا نحو هاوية الاستبداد من جديد تدفعها ايدي رجالات الحزب الجمهوري و بقايا الهياكل و شراذم شويخات موريتانيا الأعماق ...


جاء القذافي  ليكوينا ببعض نيرانه و لأراقب من قريب المهزلة العظمى .


عشت لأيام اكبر سرك مفتوح في العالم .... رجال مسلمون أبا عن جد يعلنون اسلامهم أمام ملك الملوك  مقابل بعض الدولارات ... تصفهم وسائل الإعلام بأنهم ملوك وثنيون من غانا و ساحل العاج  ... بعضهم سائقو اجرة  من السنغال ... وبعضهم  منظفو سيارات من أمبود .


وصل السيرك ذروته بصلاة الملعب ، و خطابه في تمجيد الدولة الفاطمية و الدعوة لإحيائها و الذي ذكرني بابن إياس في رائعته بدائع الزهور   ووصفه للحاكم الفاطمي المجنون  :
كان الحاكم بأمر الله يتعاطى حسبة القاهرة بنفسه ، فيلبس جبة صوف ابيض ،ويركب على حمار أشهب يسمى "القمر" و يطوف أسواق مصر والقاهرة ومعه عبد اسود طويل عريض ، يمشى فى ركابه يقال له مسعود فأن وجد أحدا من السوقة غش في بضاعته أمر ذلك العبد مسعود بان يفعل به المنكر الأكبر  على دكانه والناس ينظرون إليه حتى يفرغ من ذلك والحاكم واقف على رأسه ،وقد صار مسعود هذا مثلا عند أهل مصر .


ليت الجنون توقف في بلاد المرابطين على هذا الحد ، جاء اجتماع قصر المؤتمرات ليصطف رؤساء موريتانيا جميعا  ـ باستثناء المختار الذي اختاره الله إليه ـ واحدا واحدا تحت قدمي معمر القذافي  ليأخذ في السخرية منهم : جاء و لد..... و انقلب عليه ولد .... كلكم أولاد .....ها ها ها .
لعب العقيد لعبته بدعم ولد عبد العزيز الذي استطاع اخيرا ان يجد سندا له مستعدا لدفع اموال الليبيين لحمايته و تغيير الموقف الدولي ......
افتتحت جامعة نواكشوط مركزا لدارسات الكتاب الأخضر لنشر الجنون بين طلاب الجامعة  في صفقة لمقايضة عقولهم مقابل دعم القذافي لربيبه الموريتاني ...


*****


مرت السنوات .... وبدأت ثورة ليبيا الحقيقية .... شباب بعمر الزهور يتقاطرون على الموت بصدور عارية ليعيدوا مرة اخرى خلق اساطير جديدة سيرويها الآباء للأبناء ....


صدم القذافي العالم بأسره  بخطاباته المجنونة وإصراره على  الإبادة الشاملة لشعبه  و تقاطر المرتزقة من كل مكان في أفريقيا و كأنه يعيد سيرة قدوته الفاطمي  الذي قال فيه المقريزي في كتابه الاتعاظ:
وأمر العبيد  أن يحرقوا مصر، وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم، ففعلوا، وقاتلهم أهل مصر قتالاً عظيماً ، والنار تعمل في الدور والحريم، واجتمع الناس في الجوامع، ورفعوا المصاحف، وجأروا إلى الله واستغاثوا به، وما انجلى الحال حتى اخترق من مصر نحو ثلثها، ونهب نحو نصفها....
إعتصرني الألم و أنا اشاهد في الأنترنت بعض الموريتانيين المقبوض عليهم وهم يعترفون بأنهم مرتزقة جاءوا لقتال الليبيين ....الجميع يعرف جيدا من دفعهم لذلك المصير القاتم ....  لتلك الفاحشة العظيمة .... لذلك اللؤم التاريخي  ....


خلال الشهور الطويلة من الملحمة الليبية  لعب الجنرال عزيز نفس لعبة القذافي أي الوسيط المنحاز جدا للاشرعية ، زمالة الاستبداد و أخوية المكائد ضد إرادة الشعوب ، لم يفلح ولد عبد العزيز في تسويق حل توافقي كما استطاع القذافي خلال الازمة الموريتانية .


سيبقى رفض ولد عبد العزيز للاعتراف بالمجلس الانتقالي نكتة سمجة  في الوقت الذي رضخت روسيا بجلالة قدرها و الصين بقضها و قضيضها لإرادة الأحرار ...لإرادة أحفاد المختار.


ترى هل مازال عمي الحاج على ظهر البسيطة أم انه رحل للقاء احبابه الذين تحدث عنهم طويلا.... ؟  ليته مازال معنا ليكحل عينيه بشمس الحرية و بصباحة الوجوه التقية المنيرة بسيماء السجود لله وحده .... ليته كان شاهدا على خاتمة الرواية ليدرك أن الأجواد  ما فرقت ؟.


ودعتكم يا لجواد...
نشر في موقع تقدمي بتاريخ 13/9/2011
http://taqadoumy.com/index.php?option=com_content&task=view&id=9161&Itemid=29

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون